سورة المطففين - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المطففين)


        


{كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}
قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}: كَلَّا: ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين.
وقال الحسن: معناها حقا رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ.
وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}». قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشى الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] الآية. ونحوه عن الفراء، قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}. ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء.
وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في البقرة القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا معنى لإعادتها. وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى ابن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته، قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه، يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي غلب، وقال أبو عبيد: كل ما غلبك وعلاك فقد ران بك، ورانك، وران عليك، وقال الشاعر:
وكم ران من ذنب على قلب فاجر *** فتاب من الذنب الذي ران وانجلى
ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه، ومنه قول عمر في الأسيفع- أسيفع جهينة-: فأصبح قد رين به. أي غلبته الديون، وكان يدان، ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال:
ثم لما رآه رانت به الخم ***- ر وأن لا ترينه باتقاء
فقول: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه.
وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الامر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال. أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والأقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطى. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيره الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ: أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل رانَ بالامالة، لان فاء الفعل الراء، وعينه الالف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل، لان باب فاء الفعل في فعل الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص بَلْ ثم يبتدئ رانَ وقفا يبين اللام، لا للسكت. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ} أي حقا إِنَّهُمْ يعني الكفار {عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {لَمَحْجُوبُونَ}.
وقيل: كَلَّا ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزله الكفار بأنهم يحجبون.
وقال جل ثناؤه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} [القيامة: 23- 22] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.
وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {لَمَحْجُوبُونَ}: أي عن كرامته ورحمته ممنوعون.
وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ} أي ملازموها، ومحترفون فيها غير خارجين منها، {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها} [النساء: 56] و{كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} [الاسراء: 97]. ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. {ثم يقال} لهم أي تقول لهم خزنة جهنم {هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} رسل الله في الدنيا.


{كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)}
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} كَلَّا بمعنى حقا، والوقف على تُكَذِّبُونَ. وقيل أي ليس الامر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين.
وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم أستأنف فقال: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين.
وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ}. وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون.
وقال قتادة أيضا: لَفِي عِلِّيِّينَ هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى.
وقال البراء بن عازب قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليون في السماء السابعة تحت العرش». وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه.
وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع.
وقيل: عليون أعلى الأمكنة.
وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له، ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظة، كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري.
وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كأعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين.
وقال يونس النحوي واحدها: علي وعلية.
وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية، لأنها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين.
وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملا الأعلى، كما يقال: فلان في بني فلان، أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق».
وفي خبر آخر: «إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء» يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع.
وروى ناس عن ابن عباس في قوله عِلِّيِّينَ قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة. ثم قال: {وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ} أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ.
وقيل: إن {كِتابٌ مَرْقُومٌ} ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله عِلِّيُّونَ ثم ابتدأ وقال: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار، قاله القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.
قوله تعالى: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة.
وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي يشهد كتابتهم.


{إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ} أي أهل الصدق والطاعة. {لَفِي نَعِيمٍ} أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمة فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. {عَلَى الْأَرائِكِ} وهي الأسرة في الحجال {يَنْظُرُونَ} أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات، قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد.
وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينظرون إلى أعدائهم في النار» ذكره المهدوي.
وقيل: على أرائك إفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله. وله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي بهجته غضارته ونوره، قال: نضر النبات: إذا أزهر ونور. وقراءة العامة تَعْرِفُ بفتح التاء وكسر الراء نَضْرَةَ نصبا، أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وأبا أبي إسحاق: {تعرف} بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول نَضْرَةَ ريعا. {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} أي من شراب لاش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل الرحيق الخمر الصافية.
وفي الصحاح: لرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى الخمر وأجودها وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم *** بردي يصفق بالرحيق السلسل
وقال آخر:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره *** أشهى إلي من الرحيق السلسل
{مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ} قال مجاهد: يختم به آخر جرعة.
وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس، أنختم ذلك بخاتم المسك. وكان ابن مسعود يقول: يجدون عاقبتها طعم المسك. ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا: ختامه آخر طعمه. وهو حسن، لان سبيل الأشربة أن يكون الكدر في آخرها، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك. وعن مسروق عن عبد الله قال: المختوم الممزوج.
وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي {خاتمه} بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، قاله الفراء.
وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يختم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي.
وقال الفرزدق:
وبت أفض أغلاق الختام ***
وقال الأعشى:
وأبرزها وعليها ختم ***
أي عليها طينة مختومة، مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض.
وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {خِتامُهُ مِسْكٌ}: خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا.
إنما خلطه مسك، قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها.
وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: «غدران الخمر».
وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم. {وَفِي ذلِكَ} أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة {فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه.
وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل، نظيره: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. {وَمِزاجُهُ} أي ومزاج ذلك الرحيق {مِنْ تَسْنِيمٍ} وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. واصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبد الله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب.
وقال ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} قال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء، قاله قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة الإنسان. {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا، وهي لغيرهم مزاج. وعَيْناً نصب على المدح.
وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له اشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام ف عَيْناً نصب، لأنه مفعول به، كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 15- 14] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الأخفش ب يُسْقَوْنَ أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح.

1 | 2 | 3